الجهاز المركزي للرقابة المالية: هناك 245 ميزانية لم تنجزها جهات ذات طابع اقتصادي..


.


عندما همّت عملية دمج مؤسسات التجارة الداخلية الثلاث قبل عدة أشهر، تسلح وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك بخسائر المؤسسات الثلاث وديونها لتبرير المشروع، وكان لافتاً ما أعلنه من أرقام تتعلق بأوضاع المؤسسات الثلاث عموماً، من قبيل ديونها التي وصلت إلى نحو 40 مليار ليرة، وبمؤسسة الخزن والتسويق خصوصاً، ولاسيما لجهة خسائرها المقدرة في العام الماضي، والبالغة نحو 27 مليار ليرة، تاركاً باب التوقعات مفتوحاً على أرقام أخرى ربما تكون أكثر كارثية.

بدت هذه الأرقام صادمة للكثيرين، إلّا أنها كانت متوقعة للبعض ممن لديه إطلاع أو إلمام بخفايا جوانب العمل الإداري والمالي في جزء ليس بالقليل من المؤسسات والشركات العامة، لا بل هناك من يعتبر أن القادم أعظم في ظل ضبابية الوضع المالي لمؤسسات وشركات عديدة، اعتادت لسنوات متتالية عدم إنجاز ميزانياتها السنوية، من دون أي مبررات موضوعية ومنطقية، وبالتأكيد أيضاً من دون أن تكون هناك أي إجراءات محاسبة!.

*245 ميزانية!

تظهر الميزانية السنوية لأي مؤسسة أو شركة الوضع المالي لهذه المؤسسة أو تلك الشركة بشكل دقيق وواضح، بعيداً عن أي تقديرات أو تخمينات أو اجتهادات شخصية، إذ تكشف الميزانية السنوية وتحلل الأرباح والخسائر المتحققة خلال دورة مالية، الإيرادات والنفقات بمختلف أشكالها وأنواعها، الديون، واقع الموجودات الثابتة وغير الثابتة والمتغيرات الطارئة عليها، وغير ذلك، الأمر الذي من شأنه توفير معلومات تفصيلية تستند عليها إدارة المؤسسة أو الشركة في تحديد توجهات العمل خلال السنة المالية الجديدة، والمشروعات المراد تنفيذها لتعزيز الوضع الحالي للمؤسسة أو الشركة أو تصحيحه وفقاً لما أظهرته البيانات المالية التي أوردتها الميزانية.

وبالنظر إلى حجم وطبيعة المخالفات والتجاوزات المنتشرة في المؤسسات والشركات العامة وخسائرها الهائلة، فإن إعداد الميزانية السنوية يصبح أمراً ضرورياً لضبط الأمور المالية والحد من عمليات الاختلاس والتزوير وكشفها، والأهم إتاحة الفرصة لإجراء تقييم حقيقي وموضوعي لواقع العمل وما تحقق خلال دورة مالية واحدة. 

إلّا أن المعلومات التي حصلت عليها "الأيام" تكشف أن هناك كثيراً من المؤسسات العامة، التي لم تنجز أي ميزانية منذ عدة سنوات، رغم أن التعاملات المالية لبعضها بمليارات الليرات.. فما الذي يضمن أن الفساد لم يخترق تلك المؤسسات؟ وما الذي يؤكد أن الإنفاق يتم وفق ما هو معلن؟ وكيف تعمل مثل هذه المؤسسات وعلى أي أساس تخطط وتنفذ؟.

تقول بيانات الجهاز المركزي للرقابة المالية: إن هناك 245 ميزانية غير منجزة من الجهات العامة ذات الطابع الاقتصادي لغاية نهاية العام الماضي، وهذه الميزانيات تعود للدورات المالية لعام 2015 وما قبل.

وتضيف البيانات التي حصلت عليها "الأيام": إن أكبر عدد من الميزانيات غير المنجزة موجود في وزارة الصناعة، التي لم تنجز بعض مؤسساتها نحو 59 ميزانية، ثم تأتي وزارة الموارد المائية بنحو 54 ميزانية، فالزراعة بنحو 39 ميزانية، ورابعاً الكهرباء بنحو 26 ميزانية، ثم التجارة الداخلية وحماية المستهلك خامساً بنحو 24 ميزانية، والنقل سادساً بنحو 15 ميزانية، فالمالية سابعاً بنحو 12 ميزانية. 

في حين أن هناك فقط خمس وزارات سجل عليها عدم إنجاز ميزانية واحدة.

ونحو مزيد من التفاصيل، فإن بيانات الجهاز تحدد قائمة بعشر جهات ذات طابع اقتصادي كانت الأكثر تراكماً محاسبياً من حيث إنجاز ميزانياتها المحاسبية بنهاية العام الماضي، وقد تصدرت القائمة المؤسسة العامة للمواصلات الطرقية، التي كانت آخر دورة مالية مقدمة لها عن 2004، تلتها المؤسسة العامة للخزن والتسويق بآخر دورة مالية مقدمة عن العام 2008، فالمؤسسة العامة لتجارة وتصنيع الحبوب والمؤسسة العامة لإكثار البذار، وكلتاهما قدمتا آخر ميزانية عن العام 2009.

والمثير للاستغراب، أن مؤسسة عامة كبيرة كالمؤسسة العامة للمواصلات الطرقية، اعتماداتها بمليارات الليرات، ومع ذلك لم تنجح طيلة 12 عاماً بإنجاز ميزانية واحدة، وهذا بغض النظر عن المبررات التي قد تساق لتبرير هذا التقصير أو الإهمال، علماً أن هذه المؤسسة خرّجت محافظاً (وأصبح لاحقاً وزيراً) ووزيراً.

•    مسؤولية من؟

في المسؤولية عن هذا العدد الهائل من الميزانيات غير المنجزة تحضر جهتان، الأولى هي الإدارة المباشرة للجهة العامة ومن ثم الوزارة المعنية المفترض بها متابعة هذا الملف والحيلولة دون تفاقمه، أما الجهة الثانية فتتمثل في الجهاز المركزي للرقابة المالية الذي يتولى مهمة تدقيق واعتماد الميزانيات المقدمة من الجهات العامة، وحسب خليل علاء الدين وكيل الجهاز للشؤون الاقتصادية، فإن الجهاز يعلم بشكل دوري جهات القطاع العام التي لم تنجز ميزانياتها الختامية لاتخاذ ما يلزم لإنجازها وتقديمها للجهاز، لتقوم الإدارات المختصة بالجهاز المركزي بمتابعة إنجاز هذه الميزانيات.

ويضيف علاء الدين في حديثه لـ"الأيام": الجهاز أبدى استعداده لتقديم كل أشكال التعاون لمساعدة المؤسسات في إنجاز ميزانياتها بما يتفق ومهام ومسؤوليات الجهاز، مشيراً إلى أن عدم إنجاز بعض المؤسسات لميزانياتها من شأنها أن يعوق إجراء أي مطابقة مالية أو مصرفية، فضلاً عن إمكانية حدوث أخطاء ومخالفات وتجاوزات تستمر لوقت ما حتى يتم اكتشافها، وغالباً ما يتم اكتشافها من مفتشي الجهاز أثناء قيامهم بأعمال التدقيق الدورية.

من جهته أكد مصدر حكومي خاص أن الحكومة الحالية وجهت الوزارات لمعالجة أوضاع مؤسساتها وشركاتها و"تركة" السنوات السابقة، إلّا أن هذا الأمر يحتاج إلى بعض الوقت بالنظر إلى أن هناك مؤسسات وفروعاً موجودة في المناطق الساخنة ولا يعرف عن موجوداتها وممتلكاتها ومستودعاتها شيء، أو إنها تعرضت للتخريب والتدمير الكامل والجزئي، إضافة إلى أعمال النهب والسرقة التي شهدتها مع خروج هذه المناطق عن سيطرة الدولة.

وأضاف المصدر: تقييم الأداء لمديري المؤسسات والجهات العامة سيكون متكاملاً، وستتم مقاطعة كل المعلومات المتعلقة بأداء الجهة العامة، وبناء على بيانات مالية نهائية معتمدة من الجهات الرقابية.

*أولوية للتقييم!

قد تكون ظروف الحرب أسهمت في استمرار ظاهرة عدم إنجاز بعض الجهات العامة لميزانياتها السنوية، إنما هذه الظاهرة موجودة منذ سنوات ما قبل الحرب، الأمر الذي يطرح تساؤلات عن الأسباب التي حالت دون قيام مؤسسات كبرى معروفة بحجم تعاملاتها المالية بإنجاز ميزانياتها، وتالياً إظهار المركز المالي للمؤسسة، لكن يبدو أن بعض الإدارات كانت تتعمد التأخر أو عدم إنجاز الميزانيات كي لا يفتضح زيف ما تدعيه في الإعلام من تحقيق نجاحات وإنجازات، هي إما مبالغ فيها أو غير حقيقية!..

إن أهم خطوة يجب أن تتخذ اليوم لتقييم موضوعي وصحيح للأداء جميع مؤسسات وجهات الدولة تتمثل في إلزامها تقديم ميزانيات مدققة ومعتمدة من الجهاز المركزي للرقابة المالية، وبناء على ذلك يمكن للحكومة أن تتخذ قرارات وإجراءات إصلاح جذرية في عمل تلك المؤسسات والجهات، وهذا يبدو ما يعمل عليه اليوم وفق بعض المعطيات.