رؤية في أسس النهج الاقتصادي..


.

 

السؤال الذي كان يطرح قبل الأزمة وأصبح أكثر إلحاحاً مع تفاقم الأزمة: ما هو النهج الاقتصادي الذي يناسب المجتمع السوري والدولة

السورية والذي يلبي طموحات وتطلعات غالبية الشعب السوري ؟؟  وما هي القواعد والأسس الاقتصادية والسياسية التي يجب

اعتمادها؟؟ خاصة وأن النهج الاقتصادي الذي اتبع خلال العقد الذي سبق الأزمة هو الذي حضر وهيأ للأزمة ببعدها الاقتصادي

وبتداعياتها السياسية والاجتماعية.

لماذا يبدو من الأهمية بمكان ونحن على أعتاب مرحلة إعادة البناء و الإعمار صياغة هوية ونهج اقتصادي واضح المعالم والأبعاد؟؟

بكل بساطة كي لا نضيع مرة أخرى في لجة المتاهات ، ولأنه في حال الدخول بمرحلة إعادة البناء و الإعمار بدون نهج اقتصادي

واضح المعالم فإن طريقة تمويل وإدارة عملية إعادة الإعمار هي التي ستحدد هوية ونهج الاقتصادي السوري لقرن من الزمن على

الأقل. لذلك ليس من الحكمة بمكان الولوج في طور حقبة جديدة من تاريخ الدولة السورية بدون هوية اقتصادية واضحة المعالم.

من البداية لابد من التأكيد بأن النهج الاقتصادي الذي تتبعه أية دولة ليس معادلة رياضية خطية جاهزة للتطبيق بقدر ما هو منظومة

مجتمعية متكاملة لها أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية تتشكل وتتبلور في سياقها التاريخي التفاعلي وبتوافق بين كل

المكونات والقوى الفاعلة في المجتمع.

أولاً: في التجارب والعبر السابقة:

قبل الدخول في أساسيات النهج الاقتصادي لابد من عودة مكثفة إلى تجاربنا خلال نصف قرن من الزمن.

لقد تم خلال عقود أربعة ماضية تجريب الاقتصاد المخطط المدار مركزياً ومن ثم تم تبني اقتصاد السوق الاجتماعي خلال العقد

المنصرم،  إلا أن النهجين لم ينجحا لأنه لم يتم الأخذ بكل منهما كمنظومة متكاملة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وإنما تم

تطبيقهما بشكل انتقائي، لذلك لم نحقق نجاحات متميزة في كلا النهجين.

فقد تم خلال ثلاثة عقود ونيف من القرن الماضي بناء قطاع عام قوي وواسع تحت مسمى النهج الاشتراكي والتخطيط المركزي ولكن

وصلنا إلى إنتاجية وكفاءة منخفضة في استخدام الموارد وإلى تفاوت صارخ في توزيع الثروات والدخول.

ومع بداية الألفية الثالثة وخلال الأعوام  التي سبقت الأزمة تم اعتماد نهج اقتصاد السوق الاجتماعي نظرياً، إلا أنهفعلياً تم تطبيق

اقتصاد السوق الليبرالي واستبعد البعد الاجتماعي بالكامل من نهج" اقتصاد السوق الاجتماعي" المعتمد، وكانت النتيجة زيادة التفاوت

وزيادة التهميش والفقر. والأمر الملفت أنه لم يتم تحديد دلالات ومكونات وأسس اقتصاد السوق الاجتماعي وآليات الوصول إليه. وعدم

التحديد هذا لم يكن عفوياً، بل كان منهجياً كي يكون هناك فرصة لتطبيق شيء آخر، حيث تم تطبيق سياسات السوق الليبرالي بكل

أبعادها وبصيغتها المتخلفة والمتوحشة والمستندة إلى سياسات التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي التي نصح بها صندوق النقد الدولي

والبنك الدولي في حقبة سابقة ومن ثم ليعود البنك والصندوق لاحقاً ليعترفا بإخفاقات تلك السياسات ومحاولتهما تصحيحها.. والنتائج

التي تمخضت عن هذا النهج خير دليل على ذلك.

 

بالإضافة إلى ذلك يوجد مشكلة بنيوية في الاقتصاد السوري، فالاقتصاد السوري يعدً اقتصادا ريعياً إلى درجة كبيرة، حيث يتم الحصول

على نسبة كبيرة من الناتج والدخول بجهود إنتاجية محدودة ومن نشاطات إنتاجية تعتمد على الموارد الطبيعية وعلى بيع الخامات

والمواد الأولية. ولعل ذلك أحد أسباب ما يمكن أن يطلق عليه الكسل الإنتاجي و الصناعي والتكنولوجي الذي كان سائداً خلال العقود

الماضية.

 

ثانياً:  أساسيات يستند عليها النهج الاقتصادي:

إن النهج الاقتصادي المستهدف، والذي يمكن نطلق عليه أو نسميه ما شئتم    لابد من أن يستند إلى الأسس التالية ( لن أطلق عليه أية

تسمية الآن، لأن مهمة ورشة العمل هذه هو وضع اسم وتوصيف للنهج الاقتصادي المستهدف):

1-   لدى الاقتصاد السوري المتنوع  كل المقومات ليكون اقتصاداً متكاملاً رغم صغر حجمه. فسورية دولة غنية بمواردها المادية

والطبيعية وبمواردها البشرية المتميزة وبموقعها الجغرافي الهام وتملك مزايا نسبية ومطلقة وطاقات كامنة غير مستغلة، والنهج

الاقتصادي المستهدف يفترض أن يرتكز على استغلال كل هذا الغنى والتنوع لرفع مستوى معيشة الشعب السوري والارتقاء برفاهيته

المادية وتحقيق تنمية متوازنة بين مختلف المناطق والأقاليم السورية.

 2-  لا يمكن للاقتصاد السوري أن يحقق نجاحات متميزة إلا في إطار بعده العربي وبالتشبيك والتكامل والاندماج مع محيطه العربي

والإقليمي انطلاقا من أن موارد دول المنطقة يجب تستغل بالتعاون والتكامل والتنسيق مع دول المنطقة ولخدمة وصالح شعوب المنطقة.

 3-  المنظومة الاقتصادية المستهدفة تعمل على تحقيق التنمية المستدامة بمفهومها الواسع والتي تشكل منظومة متكاملة بأبعادها الثلاث:

البعد الأول اقتصادي يهدف تحقيق نمو متواصل و معدلات نمو عالية في الناتج الإجمالي من السلع والخدمات ونمو متواصل في

مستويات الدخول الفردية.
 

البعد الثاني اجتماعي يهدف تحقيق العدالة والإنصاف في توزيع الدخول والثروات والفرص، ويعتمد قنوات توزيع  وإعادة توزيع تقوم

على نظام ضريبي أكثر عدالة وعلى إنفاق حكومي فعال، بحيث يكسب الجميع من ثمار التنمية والنمو الاقتصادي ويتم الارتقاء بمستوى

ونوعية حياة البشر.
 

البعد الثالث بيئي  يضمن حماية البيئة ويحد من التلوث واستنزاف الموارد الطبيعية ويؤمن إعادة إنتاج تلك الموارد، بحيث نضمن

استمرارية النمو وحفظ حقوق الأجيال القادمة.
 

ثالثاً : في النهج:

إشكالية التفاعل الديناميكي بين الاقتصادي والاجتماعي

يفترض أن يستند النهج الاقتصادي المستهدف إلى منظومة اقتصادية سياسية اجتماعية متكاملة تأخذ بالمؤشرات والمعايير الاقتصادية

للتنمية(معدلات نمو مرتفعة، مستوى مرتفع لإنتاجية عناصر الإنتاج، مستويات مرتفعة للعائد والربحية، نمو متواصل بمتوسط نصيب

الفرد من الدخل القومي،...إلخ). إلى جانب المؤشرات والمعايير الاجتماعية للتنمية ( العدالة الاجتماعية  والإنصاف والأمن والتماسك

الاجتماعي كمكونات لرأس المال الاجتماعي)  وتجمع المنظومة الاقتصادية أو النهج الذي نبتغي بين أسس ومعايير الكفاءة الاقتصادية

وفعالية السوق ومرونته في الاستخدام الأمثل للموارد لتحقيق الرفاهية المادية من خلال الأخذ بقوانين السوق: قوى العرض والطلب

وحرية التملك والنشاط الاقتصادي وإتاحة المعلومات والفرص أمام الجميع والشفافية وتوفير البيئة التنافسية والشفافية والحد من

الاحتكار ،وبين الإنصاف والعدالة في توزيع الثروات والدخول وتأمين شبكات الأمان والحماية الاجتماعية عبر تدخل الدولة الفعال

وردعها للاحتكارات وتدخلها عبر قنوات توزيع وإعادة توزيع الدخول لضمان الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.

وبهذا المعنى تسعى المنظومة الاقتصادية المستهدفة لتجنب إخفاقات السوق في تحقيق الاستقرار والتوازن وعدالة التوزيع ولتجنب

إخفاقات التخطيط المركزي في تحقيق المرونة في الاستخدام الأمثل للموارد وفي تحقيق معدلات نمو عالية. ولكي ينجح النهج

المستهدف لابد من توفير الآليات لكي تعمل منظومة السوق لصالح المجتمع لا أن يعمل المجتمع لصالح منظومة السوق.

وهنا نتذكر مقولة ذات دلالة هامة لرئيس أكبر مصرف الماني- الدويتشة بنك- هيرمان جوزيف آبس عام 1973 عندما كانت المانيا

تنتهج اقتصاد السوق الاجتماعي بكل أبعاده :   " إن أهمية الربح بالنسبة للمشروع كأهمية الهواء الذي يستنشقه الإنسان، ولكن كما أن

الإنسان لا يعيش من أجل استنشاق الهواء فقط، كذلك لا يعمل المشروع من اجل تحقيق الربح فقط، "

مسألة دور الدولة:

تتطلب منظومة اقتصادية بالمواصفات المذكورة دولة قوية، إلا أنها ليست بالضرورة الدولة التي تتملك وتنتج، وإن كان يجب أن تمتلك

وتدير المشاريع الإستراتيجية ذات الصلة بالسيادة الوطنية وبالأمن القومي، بل الدولة التي تمتلك مؤسسات فاعلة وأدوات الضبط

والتدخل المستمر وتستخدم مفاتيح التحكم عبر السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية بفاعلية لضمان بيئة اقتصادية تنافسية تطلق

المبادرات وتحقق الكفاءة والفعالية من جهة وتحقق الإنصاف والعدالة الاجتماعية والأمن الاجتماعي من جهة أخرى، بحيث يعوض

تدخل الدولة قصور وإخفاقات السوقدون أن تحل الدولة محل آليات السوق.

الدولة في النهج الاقتصادي المستهدف هي الدولة الفاعلة القادرة على التحكم والضبط والتدخل المستمر بفاعلية لمواجهة المتغيرات

والأزمات الاقتصادية والاجتماعية وتملك قطاع أعمال عام انتقائي يتحكم بالسلع الإستراتيجية،  وليست الدولة التي تملك وتنتج في كل

المجالات. وإذا كان الهدف هو تحقيق العدالة في توزيع الثروات والدخول وتحقيق مستوى معيشة مرتفع ومستوى رفاه اجتماعي عالي،

فإن ما يهمنا هو الغاية والهدف الذي يمكن تحقيقه بأدوات مختلفة، وهذا لا يتطلب بالضرورة أن تتملك الدولة لمعظم وسائل الإنتاج

والقيام بالعملية الإنتاجية كي نصل إلى الأهداف. ولنا بتجارب الدول الاسكندينافية والمانيا خلال العقود الأربعة التي أعقبت الحرب

العالمية الثانية، وقبل أن ترتد إلى الليبرالية مرة أخرى، أسوة حسنة.

إن الوصول إلى مستوى مرتفع من الرفاهية المادية وتحقيق العدالة الاجتماعية تتطلب منظومة اقتصادية تتيح نوع منالتوازن بين كل

أشكال الملكية(ملكية خاصة، ملكية عامة، ملكية مجتمعية، ملكية تعاونية، ملكية مشتركة) وتستند إلى قطاع أعمال عام انتقائي وفعال

ينظر إليه من منظور الكفاءة الاقتصادية ومن منظور القيمة المضافة التي يحققها وليس من منظور الربح والخسارة بالمفهوم المحاسبي

إلى جانب قطاع أعمال خاص يجسد مفهوم المواطنة المؤسسية بكل أبعادها من حقوق والتزامات ومسؤوليات. ويكون التفاعل بين

القطاعين على أساس الحد من نسبة الاقتصاد الريعي وتوسيع النشاطات المولدة للقيم المضافة.

 

والأهم لنجاح أي نهج هو أخذه  كمنظومة متكاملة بكل مكوناتها وليس بشكل انتقائي، لأن سقوط أحد مكونات المنظومة قد يسقط

المنظومة بالكامل.

 

رابعاً: الأولويات في المرحلة المقبلة

وعند التفكير بالنهج الاقتصادي وبالسياسات والبرامج التي ستترجم هذا النهج  واقعاً على الأرض يجب أن ننطلق من المشاكل الكبرى

التي يعاني منها الاقتصاد والمجتمع السوري:

 

مشكلة إعادة البناء بمنظور تنموي ومشكلة المهجرين واللاجئين التي ستمتد لسنوات إن لم يكن لعقود.
 

التفاوت الصارخ في توزيع الثروات والدخول والفرص.
 

التفاوت الكبير في المستويات التنموية بين المناطق والأقاليم.
 

مشكلة اقتصاد الظل، الذي قدر ب 40% من الناتج المحلي قبل الأزمة. وتفاقمت مشكلة اقتصاد الظل بشكل كبير مع الأزمة.
 

مشكلة الفساد واستحواذ بعض شبكاته على بعض أجهزة الدولة
 

مشكلة الإخفاق المؤسساتي وآلية عمل مؤسسات الدولة.
 

الفقر والبطالة وخلق فرص العمل والتشغيل

ورقة  قدمت للنقاش في ورشة العمل التي أقيمت في كلية الاقتصاد عام 2014  تحت عنوان" النهج الاقتصادي لسورية المتجددة"

أ.د. رسلان خضور

كلية الاقتصاد- جامعة دمشق